خلف نقص الغذاء والأدوية بعد عامين من الحرب الطاحنة تداعيات وخيمة على الحياة اليومية في اليمن.
مراسلة بي بي سي، نوال المقحفي، سافرت إلى أنحاء متفرقة من البلاد لنقل تلك الآثار عن قرب أولا بأول.
دخلت سميرة المدرسة، التي تحولت إلى عيادة متواضعة لعلاج الكوليرا، ويختلجها إحباط أُم علمت أن الوقت ينفد من بين يديها لإنقاذ حياة طفلتها.
وللوصول إلى العيادة، سافرت الأم عدة كيلومترات سيرا على الأقدام، وسيلة الانتقال الوحيدة التي تستطيع سميرة تحملها.
شاهدتها وهي تهرول نحو عربة يتمدد عليها المرض للعلاج، ترقد عليها طفلتها أورجوان البالغة 18 شهرا، وتتوسل الأطباء إنقاذ حياتها.
ولم تكشف عينا سميرة حالة اليأس التي تنتابها فحسب، بل كشفت كذلك عن مدى الإرهاق الجسدي الذي يثقل كاهلها.
بالنسبة لسميرة، كان البقاء على قيد الحياة خلال العامين بمثابة معركة عنيفة لا هوادة فيها. وبدا وجه أورجوان شاحبا وضعيفا، بجسد يزن بالكاد نصف وزن الأطفال الذين في عمرها، وتبرز ضلوعها بين جسدها النحيل.
اليمن
وللوصول إلى هذه المرحلة، اضطرت سميرة وأسرتها تحمل ثلاث معضلات شاقة من معضلات الحرب، هي: النزوح والمجاعة والكوليرا.
وكمثل قرابة ثلاثة ملايين يمني، تعتبر سميرة وأسرتها جزءا من مأساة النزوح الداخلي.
وأصيب منزل الأسرة في غارة جوية شنها التحالف بقيادة السعودية، الذي يدعم الحكومة في حربها ضد جماعة الحوثي المتمردة.
وكان أطفال سميرة، إلى جانب قرابة نصف مليون آخرين دون سن الخامسة، يعانون من مستويات حادة من سوء التغذية. وكذلك سميرة، كانت هي الأخرى تعاني من سوء التغذية، ما لم يمكنها من إرضاع طفلتها أورجوان.
فبدلا من ذلك، كان كل ما تمكنت سميرة الحصول عليه لابنتها هو حصص ضئيلة من الحليب المجفف، المعد بماء ملوث بالبكتيريا التي تسبب الكوليرا.
وكلما رأت سميرة طفلتها، تجهش بالبكاء.
وقالت سميرة: "إذا كان هناك شيء أكثر من ذلك استطيع تقديمه، لفعلت... حتى إذا طلبت من أخي المساعدة، فلن يستطيع، فهو يائس أيضا."
استغاثة الأمم الأمتحدة لجمع 2.9 مليار دولار لتوفير المساعدات لليمن لم يمول منها سوى 39 في المئة.
وللأسف، فحالة سميرة لم تكن على الإطلاق حالة فردية، فهي في الحقيقة أول حالة من بين حالات كثيرة صادفناها خلال رحلتنا في أنحاء البلاد.
فإينما ذهبت، رأيت كثيرين يعانون اليأس والحزن والشعور بغياب الحماية.
وفي المناطق الشمالية التي يسيطر عليها المتمردون، زرنا عيادة تلو الأخرة، وكلها مكتظة بالمصابين بالكوليرا. وفي عيادة واحدة، قابلت أسرة مكونة من 18 شخصا جميعهم مصابون بالمرض.
قد يبدو من الغريب قول ذلك، لكن الأشخاص المحظوظين، في حالات كثيرة، كانوا ممن تمكنوا من القيام برحلة الحصول على العلاج وتحمل صعابها.
ويعتقد بأن حصيلة الوفيات بسبب تفشي الكوليرا بلغت أكثر من ألفين شخص، وهي الحصيلة الأكبر في العالم، وإصابة نحو 450 ألفا.
وتسببت الحرب في إغلاق أكثر من نصف المنشآت الصحية أو تشغيلها جزئيا، وهو ما أدى إلى حرمان 15 مليون شخص من إمكانية الحصول على الرعاية الصحية.
وعندما خضنا مغامرة في المنطقة الريفية، وصلنا إلى بلدة تبعد نحو ساعة ونصف الساعة عن أقرب منشأة طبية.
وهناك، وجدنا أناسا في منازلهم وفي الطرقات ممددين على الأرض وعلى الأسرّة وعليهم أعراض تشبه أعراض الكوليرا.
تحدثت إلى عبدالله وشقيقته هند، وسألتهما لماذا لم يذهبا إلى المستشفى. فلم يستطع عبد الرد سوى بكلمات قليلة للغاية، قائلا: "لا نملك المال لانتقالنا... فهذه الحرب لم تبق لنا شيئا."
وعلى الرغم من أن اليمن في العصر الحديث كان دائما بلدا فقيرا، لم تصل الأمور فيه إلى هذا الحد من السوء لمواطنيه.
فالحرب الممتدة على مدار عامين ونصف العام تسببت فيما أطلقت عليه الأمم المتحدة الآن رسميا بأكبر أزمة إنسانية في العالم.
ويقدر اليمنيون الذي يعانون درجات شديدة من انعدام الأمن الغذائي بنحو سبعة ملايين شخص.
ويعتمد ثلاثة أرباع سكان اليمن البالغ عددهم 27 مليون نسمة على صورة ما من صور المساعدات الإنسانية، على الرغم من أن المرء لا يحتاج إلى أرقام رسمية لمعرفة ذلك. ففي كل مكان ذهبت إليه، أرى طوابير المتسولين في الشوارع بصورة لم أشهدها في البلاد من قبل.
وبينما نقود سيارتنا في محافظة الحديدة، انتابتني الدهشة من مئات المتسولين الذين اقتربوا من النافذة عندما توقفت في مفترق طرق.
كانت إحداهم امرأة مسنة، كانت تحدق نحوي عبر زجاج النافذة.
ثلاثة أرباع سكان اليمن البالغ عددهم 27 مليون شخص يعتمدون على صورة ما من صور المساعدات الإنسانية
وعندما أنزلت زجاج نافذتي قالت: "هذا هو مدى اليأس الذي ألحقوه بنا. أبنائي لا يتقاضون رواتب الآن، وأنا أقضي أيامي الأخيرة في هذا العالم متسولة لإطعامهم."
وبسبب عدم دفع رواتب العاملين في القطاع العام لأكثر من سنة، فإن قصة هذه السيدة تشبه قصص ملايين اليمنيين، بداية من موظفي إشارات المرور حتى المعلمين، الذين انتهى بهم الحال إلى التسول لإطعام أنفسهم وأطفالهم.
حصار مميت
وأدى الحصار المفروض على اليمن منذ عام 2015 من قبل التحالف الدولي الذي تقوده السعودية إلى الحد من حصص الغذاء والمساعدات والوقود المسموح بها إلى البلاد إلى درجة شديدة.
أما القدر القليل الذي يأتي عبر البحر غالبا ما يستغرق أسابيع حتى يُجرى تفريغه لأن الرافعات في محافظة الحديدة، التي كانت إحدى أكثر الموانئ ازدحاما في اليمن، قد قصفت، وأصبحت إما خارج الخدمة أو قيد الإصلاح.
وعندما تبرعت الحكومة الأمريكية برافعات جديدة لبرنامج الغذاء العالمى التابع للأمم المتحدة، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أوقفها التحالف في البحر ورفض دخولها.
وأثناء زيارتي للحديدة، التقيت المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيسلي، الذي كان يقوم بزيارة تفقدية هناك.
وقال لي: "يتعين أن يكون الغذاء والمساعدات أسلحة سلام لا أسلحة حرب"، وأضاف والحزن ينتابه: "إذا لم تستطع تلك الرافعات تأدية مهامها، فسيموت مئات الآلاف من الأطفال باليمن."
وإضافة إلى انخفاض الواردات، جعل الحصار تكلفة التوزيع مرتفعة للغاية، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الأغذية الواردة بدرجة كبيرة بالنسبة للغالبية العظمى من السكان.
أكثر من ألفين شخص ماتوا في تفشي مرض الكوليرا في اليمن
حتى وكالات المساعدات الإنسانية تعاني معاناة شديدة في تمويل طرق التسليم، وذلك بسبب الأموال الطائلة التي تنفقها على وسائل النقل بدلا من المواد التموينية ذاتها.
وعلى الرغم من حجم الأزمة وخطورتها، لم يبلغ حجم الأموال التي جمعتها منطمات غوث تابعة للأمم المتحدة سوى 39 في المئة من المستهدف البالغ 2.9 مليار دولار.
في غضون ذلك، تقول وزارة الصحة اليمنية إن إغلاق المطار في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في العاصمة اليمنية، صنعاء، أدى إلى وفاة 10 آلاف شخص من جراء أمراض يمكن علاجها بسبب صعوبة سفر المرضى لتلقي العلاج.
ويقول التحالف إن الحصار المفروض هو لمنع تهريب السلاح إلى اليمن، وأنكر استهداف المدنيين عمدا في الحرب.
نقص الغذاء الحاد جعل كثيرا من الأطفال أكثر عرضة للإصابة بالكوليرا
فأينما ذهبت، ستجد نقصا حادا في الغذاء والإمدادات الطبية بدرجة لا يمكن تخيلها.
ولا تمتلك الدولة، بسبب واقع الصراع السياسي، القدرة على التعامل مع هذه الكارثة الإنسانية.
وبالطبع، لا يعني ذلك إعفاء الحوثيين وحلفائهم من مسؤولية المأساة في البلاد.
واتهمت منظمات حقوق الإنسان الحوثيين أيضا بالقتل الجماعي للمدنيين، وانتهاك قوانين الحرب، وهي التهم التي ينفيها الحوثيون.
وتقول تقارير إن المتمردين أعاقوا أيضا عمليات توزيع المساعدات على الأرض.
لا أعلم ما الذي حدث لسميرة وأورجوان إضافة إلى عبدالله وهند وباقي السكان في البلدة.
وتتمثل مأساة الكوليرا في أن المرض يمكن علاجه بسهولة إلا أنه يصبح مميتا خلال ساعات ما لم يُجرَ علاجه.
إن ما يبعث على الحزن بشأن الكارثة الإنسانية في اليمن هو أنها من صنع الإنسان كلية.
كل المصابين الذين رأيناهم كان يمكن علاجهم وإيقاف الإصابة بهذا المرض تماما في غضون أيام إذا كانت ثمة إرادة سياسية، من جانب الفصائل المتقاتلة ومؤيديها في الخارج.
وفي الوقت نفسه، في حالة استمرار الدبلوماسية الدولية في خذلان اليمنيين، فستزداد أوضاعهم الإنسانية سوءا بدرجة لا يمكن تصورها.