"نحن جوعا والبرد يقطع جلودنا".. قالها العم حسين بصوت مبحوح ونبرة حزن مريرة لخصت - مع تعابير وجهه البائس - واقع نازحي الحرب في اليمن، الذين تتفاقم أوضاعهم واعدادهم يوما بعد آخر، وباتوا في مواجهة حقيقية مع كارثة إنسانية وشيكة بدأت المنظمات المعنية تدق ناقوس أخطارها المرتقبة.
ومن بين المحتشدين في طابور غير مرتب كان العم حسين الذي يسير في عقده الخامس يحاول جاهداً الوصول إلى موظفي منظمة اغاثية للحصول على وجبة غذاء، بعد رحلة نزوح استمرت لعشر ساعات مشيا على الاقدام قبل ان يصل الى مدينة إب – وسط اليمن - دون ان يجد مكانا آمنا يأوي اليه، وكذلك الحال بعشرات الالاف من النازحين الذين يضطرون للسير لساعات طويلة وربما لأيام في مناطق جبلية وعرة ووديان قاحلة كي يبلغوا الأمان، في وضع إنساني تراجيدي للغاية، الأطفال أكثر ضحاياه.
ولم يكن عمر ذو العام الواحد سوى نموذج لعشرات الأطفال الذين ماتوا بعد أن عجزت أجسادهم الطرية عن تحمل بيئة قاسية كتلك التي وجدوا أنفسهم فيها.
تقول أم عمر وهي شابة تسير في عقدها الثالث إن عمر أصيب بضربة شمس وانه ظل يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة طيلة الليل حتى فارق الحياة مع ضوء الصباح.
الأم الثكلى كانت تبكي بحرقة وهي تروي تفاصيل من حياتها التي تحولت فجأة من استقرار وسعادة إلى جحيم لا يطاق حسب تعبيرها.
طفل آخر لام عمر يعاني من الإسهال الشديد وأعراض الحمى. ملامح الشحوب كانت بادية بوضوح على وجه شقيق عمر الذي عبرت والدته عن خوفها من اللحاق بأخيه. لقد امتزجت دموع الام الثكلى بدعوات كانت تطلقها بقهر على من كانوا سببا في اندلاع الحرب في اليمن.
أطفال آخرين كثر وقعوا ضحية حرب شعواء هي الأقسى من بين الحروب التي شهدها اليمن في التاريخ الحديث، ومن لم يمت منهم فقد تعرض لأذى نفسي وصحي واجتماعي وتعليمي لا يمكن تجازه بسهولة مستقبلا.
وفي واقع يغيب عن اهتمامات وتوجهات الدول الكبرى التي رتبت أولوياتها تجاه اليمن وفق أجندات أخرى جعلت أوضاع النازحين في آخر سلم الاهتمامات، يستمر نزيف الدم اليمني بعد نحو عامين على الحرب التي اتت على كل شيئ جميل في البلد..
وبعيداً عن لون الدم ورائحة البارود، ومناظر الأشلاء والجثث والدمار الذي خلفته الحرب ولا تزال، هناك مأساة إنسانية تقع على الطرف الأخر من عدسة كاميرات الإعلام وتناولات الصحافة.
إنها مأساة النازحين من ويلات الحرب الذين تجاوزوا وفق اخر التقديرات الصادرة عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة ثلاثة ملايين يمني .. أولئك الذين وجدوا أنفسهم بين خيارين كليهما أمر من الاخر. فإما انتظار الموت في مدنهم وقراهم ومزارعهم التي تحولت دون سابق إنذار إلى ساحة حرب شعواء، وإما الخروج إلى وجهة غير محددة، فكان الخيار الثاني رغم قساوته.
ولأنها الحرب بكل بشاعتها فإن الموت الذي كان مؤكداً للأهالي إن هم بقوا في مناطقهم، لحق بهم في رحلة النزوح واتى على جماعات منهم في مناطق مختلفة، وهو ما حدث في الثامن عشر من يناير الفائت حين قتل قرابة 22 مدنياً بهجوم أثناء محاولتهم النزوح من مدينة المخا باتجاه محافظة إب وسط اليمن، وتبادل أطراف الحرب الاتهامات حول مسؤولية الهجوم، ناهيك عن قتل عدد من النازحين بشكل فردي في فترات متقطعة بعضهم كان لا يزال في منزله وآخرين كانوا يعدون رحالهم للنزوح. وهو الامر الذي تكرر في تعز وأبين وعمران وصنعاء ومناطق يمنية عدة مع اختلاف التاريخ وعدد الضحايا.
ومن نجا من الموت، فعليه مواجهة الجوع والتشرد واحساس مرير بالضياع والالم...