احتفل اليمنيون في 26 من سبتمبر بالذكرى الـ 54 للثورة اليمنية، وانتهاء الحكم الإمامي الذي استمر أكثر من قرن في الشمال، وبداية العهد الجمهوري. حلم اليمنيون منذ ذلك الحين، بالدولة المدنية الحقيقية التي يعم فيها العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، الدولة التي تسعى، بشكل حثيث، إلى التطور ونبذ الماضي، من خلال تحقيق واقع ملموس، يستند إلى بناء المؤسسات وتنمية القدرات وتوفير الخدمات، الدولة التي لا تكون فيها الكلمة العليا سوى للقانون.
كانت المرأة اليمنية، وهي الأكثر تحملاً لمساوئ فترة الإمامة، الأكثر توقاً وشوقاً لإشراقة الجمهورية وتحقيق أهدافها وتطبيق مبادئها، لينعكس ذلك كله على تفاصيل حياتها، فهي التي قبعت خلف الجدران محرومةً من التعليم والصحة والحق في المشاركة في الحياة العامة. هي الضعيفة الموجوعة المظلومة المتكئة على ما يجود به عليها الرجل من فضله على المستويات، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتعليمي. نستثني من ذلك نسبياً فتيات الأسرة الحاكمة ونسائها آنذاك.
هل وجدت المرأة نفسها بعد ثورة 26 سبتمبر 1962؟ سنكون مبالغين إن أجبنا نعم، وجاحدين إن قلنا لا، فقد مرّت المرأة اليمنية بعدة مراحل، خضعت فيها حياتها، بكل تفاصيلها للأجواء السياسية والمزاج العام الذي عكس نوعية الحكم في مختلف الفترات التي تلت الثورة المباركة. ويمكن تعيين ثلاث مراحل: السبعينيات والثمانينيات مرحلة أولى، التسعينيات وبداية الألفية الثانية مرحلة ثانية، تليها الثالثة، وهي الراهنة التي بدأت مع ثورات الربيع العربي.
تجاوزت المرحلة الأولى (1970 – 1989) السنوات التي تلت الثورة (فترة الستينيات)، والتي سبقت هذه المرحلة لعدم وجود تغير جذري، أو اختلاف محوري، في ما يتعلق بالمرأة وأسلوب حياتها آنذاك، ما عدا بدء التحاق عدد محدود جداً من الفتيات بالتعليم الابتدائي، والتحاق عدد يكاد يعد على أصابع اليدين في القطاع الصحي. ما يعود إلى شدة اضطراب الوضع السياسي آنذاك، وعدم اتضاح ملامح الواقع، وذلك لاستمرار محاولات تثبيت الثورة، من خلال محاربة مؤازري الملكية آنذاك، والذين وجدوا الدعم الكبير من المملكة العربية السعودية، في محاولاتٍ مستمرة لإعادة حكم الإمامة. والحديث هنا، بشكل أساسي، عن نساء المدينة، لأن المرأة في الريف ما تزال تقبع تحت صنوف الجهل والتسلط، ما عدا استثناءات بسيطة أيضاً، ممثلة بالتعليم الذي أخذ حيزاً جيداً في خريطة حياة المرأة الريفية، بالإضافة إلى الاهتمام النسبي بالصحة وانخفاض معدلات وفيات الأمهات في أثناء الولادة في الريف.
"يمثل تغير المشهد بطريقة دراماتيكية مرعبة، غير متوقعة، انتكاسة جديدة مفجعة للمرأة اليمنية، والذي سيلقي بظلاله على حياتها مجدّدا، وذلك في عودة الغطاء الديني المتشدّد، والمتمثل بالحركة الحوثية التي سيطرت على العاصمة صنعاء بالقوة"
وعليه، اتصفت السبعينيات، بتغيير حقيقي وملموس في المجتمع اليمني، فقد كانت بداية الفترة الذهبية للمرأة اليمنية في الشمال. بدأ فيها الالتحاق بمراحل التعليم المختلفة بشكل كبير والترفيه، والخروج عن الطوق الذي أحكم إغلاقه على روحها وأحلامها عقوداً طويلة، فقد التحقت بالمدارس والجامعات، وخرجت إلى السينما، وشاركت في المسرح والفرق الفنية، حتى أن بعض الآباء كانوا يأتون إلى المدرسة، اعتراضاً على عدم اختيار فتياتهم، ضمن الفريق المسرحي للمدرسة.
اتسمت، في ما بعد، فترة الثمانينيات، بالانفتاح وتقبل المرأة شريكة في العمل والجامعة والمواصلات العامة، بمظهرها البسيط الذي اتخذته بتلك الحجابات الصغيرة التي تربط إلى الخلف ذات الألوان الزاهية. وبدا الالتحاق بالتعليم الجامعي من أهم سمات تلك المرحلة. بالإضافة إلى التحسن النسبي في الخدمات الصحية، وانتشار الوعي جيداً فيما يتعلق بالصحة الإنجابية وانخراط نسوة عديدات في القطاع الصحي، وتألق عدد بسيط منهن في المجال الإعلامي (المسموع والمرئي)، واستمرارها في بعض المهام التي بدأتها منذ النصف الثاني من السبعينيات، كالسكرتارية والأرشفة والتحويلة في مرافق ووزارات عديدة.
استمرت المرحلة الثانية من 1990 إلى 2010، فبعد تحقق الوحدة اليمنية في 22 مايو/ أيار 1990، بدأت ملامح الثورة السياسية والإعلامية الحقيقة المتمثلة بالتعدّدية الحزبية والإصدارات الصحافية المختلفة، فلم يعد بعدها صوت الحكومة هو الأوحد في المشهد. كانت هذه الانتعاشة بمثابة نافذة القدر والحظ لنساء كثيرات اخترن الانخراط في الأحزاب اليمنية المختلفة، عضوات وناخبات في المجال السياسي، وكاتبات وصحافيات بارزات في المجال الإعلامي. إلا أنه، و في الوقت نفسه، وبالتزامن مع هذا الكم من الاستحقاقات التي بدأت ترى طريقها إلى حياة النساء اليمنيات، بدأ المد الديني المتطرّف، مع إنشاء المعاهد العلمية (معاهد دينية تدرس كل المراحل وتصيغ شخصيات طلابها وطالباتها وأذهانهم في إطار ديني متشدّد، مقارنة بما كانت عليه أغلب المدارس والكليات الاعتيادية آنذاك والتي كانت تدرس الفنون والموسيقى، وتتسم بالاختلاط في مراحلها الدراسية الأولى، وكل مراحلها الجامعية، على عكس هذه المعاهد تماماً).
تحولت المرأة إلى ورقة تستخدمها الأحزاب في فترات الانتخابات فحسب، أو في النشاط الخيري و المجتمعي لها. وبدأ السواد يغزو عالم المرأة اليمنية مجدّداً، وما لبثت أن انفكّت عنه قليلاً. عادت رغبة أسر كثيرة في عدم إتاحة المجال لفتياتهم للانخراط في الأنشطة الثقافية والفنية. تغيرت معايير كثيرة في تقييم المرأة اجتماعياً وأخلاقياً، وتراجعت بذلك عجلة حياة المرأة اليمنية في هذه الشأن من جديد، إلا أن مجال التعليم كان الأوفر حظاً في حياة المرأة اليمنية التي واصلت تعليمها الجامعي، وبعثت في منح للدولة إلى الخارج، وواصلت تعليمها العالي، وبدأت تتبوأ المناصب القيادية بشكلٍ يبعث على الأمل والتفاؤل، كما بدأ بروز نساء ناشطات في المجال الحقوقي بشكل ملحوظ.
ومع بداية الألفية الثانية، خضع المجتمع اليمني لتطورات العصر، في ما يتعلق بالتكنولوجيا والثورة المعلوماتية، فحصلت المرأة اليمنية على نافذةٍ لمعرفة العالم من خلال شبكة الإنترنت التي أعطتها ثقة كبيرة، ومكّنتها من تطوير مهاراتها الذاتية، فيما يتعلق بالتعامل مع أدوات التكنولوجيا المختلفة. وقد مكّنها ذلك من الانخراط أكثر، على الرغم من المعوّقات الاجتماعية والصعوبات، في مجالات السياسة والاقتصاد والحقوق.
وبشأن المرحلة الثالثة الراهنة، والتي بدأت عام 2011، فعلى الرغم من جملة الإنجازات التي حققتها المرأة اليمنية على المستويات كافة، وتركّزت على أسر أو مناطق معينة، اتسمت ربما بالانفتاح أو التعليم والدفع بنسائها إلى التفوق، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل عن حجم الدفعة القوية التي حصلت عليها مجمل نساء شمال اليمن بعد ثورة 11 فبراير، فقد تحرّرت نساءٌ كثيرات من العوائق الاجتماعية والقيود النفسية بصورة أكبر. كما وجدت نساءٌ كثيرات الفرصة للانخراط في مجالاتٍ لم تكن تلقى دعماً كثيراً على المستوى الاجتماعي، كالإعلام والظهور العام إجمالاً. نزعت نساءٌ كثيرات غطاء الوجه (البرقع)، ورفعن اللافتات، وخرجن إلى الساحات، وبتن في ميادين التظاهر في خيامهن، وصدحن بأصواتهن في مكبرات الصوت.
"ما تزال معركة المرأة اليمنية مظلمة، في جوانب كثيرة، كاستمرار سلطة الرجل عليها في إطار الأسرة، وضرورة خضوعها لقواعد اجتماعية وأعراف وعادات وتقاليد كثيرة مفروضة عليها"
جعل هذا كله من هذه المرحلة تحديداً نقطة تحول مفصلية في حياة المرأة اليمنية، وجعلها تنتقل فعلياً من مرحلة الاستجداء إلى مرحلة الاستقواء، وتمثل ذلك بنسبة مشاركة النساء في مؤتمر الحوار الوطني الذي بدأ في 2012 حتى 2013. وكان فرض الكوتا النسائية من أهم مخرجاته، كما تصدرت نساء النشاط الثوري والحقوقي والإعلامي، ليس على مستوى محلي فحسب، بل كان لناشطات يمنيات حضور إقليمي وعالمي.
إلا أن معركة المرأة اليمنية، وإن أشرقت في هذا الجانب، فإنها ما تزال مظلمة، في جوانب أخرى كثيرة، كاستمرار سلطة الرجل عليها في إطار الأسرة، وضرورة خضوعها لقواعد اجتماعية وأعراف وعادات وتقاليد كثيرة مفروضة عليها، بالإضافة إلى مظالم كثيرة متعلقة بحقوقها في الميراث وقرار الزواج، وتلك القوانين المجحفة التي تتعلق بقانون الأسرة والأحوال الشخصية، أو حتى التمييز الذي ما يزال يطاولها في الاستحقاقات الاجتماعية والسياسية والمناصب القيادية.
ويمثل تغير المشهد بطريقة دراماتيكية مرعبة، غير متوقعة، انتكاسة جديدة مفجعة للمرأة اليمنية، والذي سيلقي بظلاله على حياتها مجدّدا، وذلك في عودة الغطاء الديني المتشدّد، والمتمثل بالحركة الحوثية التي سيطرت على العاصمة صنعاء بالقوة، في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، لتصبح هذه الجماعة سلطة الأمر الواقع في شمال اليمن، وهي التي لا تؤمن بدور للمرأة، كما باقي الحركات الدينية المتشدّدة التي تكون النساء الأكثر تضرراً من حكمها على الدوام.
وبدأت نقطة تحول جديدة كارثية للمرأة في سبتمبر 2014، وهو الشهر الذي يحتفل فيه اليمنيون بذكرى الثورة السبتمبرية العظيمة، والتي مثلت لهم، على الدوام، الأمل ببداية حياة جديدة، وللمرأة اليمنية لحظة ولادة حقيقية.
عن العربي الجديد