في الحديدة .. حسرة ومحبة
في الإقلاع والهبوط تقنعك الحديدة بحجم المأساة، وهول الكارثة، تشعر أن جزءاً من جسدك يُحاصر مع كل قطعة أرض مسورة، فالمنظر العلوي من الطائرة يعيد ترتيب المشاعر على نحو محزن "البلوكات" تحاصر فرحي، تلغي المسافة بيني وبين المدينة التي أحببتها رغم سنوات الهجرة الطوال، إذ لطالما شقّت أحزان الحديدة مجراها إلى قلبي دون دليل، كتبت عن الحديدة عشرات المرات، ولا أنسى في كل مرة أن أسميها "غرب اليمن المنسي".
في الحديدة يضيع سواد طفلة وسط سواد أيامها الحالكة، ولم تعد تذكر من الدنيا سوى: "الله معاكن.. هب لي عشرة".
في الحديدة تتقدّم شابة حاملة حزن السنين، تقول: "هب لي عشرة حق الفطور"... قالتها وهي تمضغ "قرطاس السكريم".. قلت محدثاً حزني: أأضحك من منظر "السكريم" بيد الصائمة، أم أحزن على فطور بعشرة ريالات..؟!.
في الحديدة جيش النهابة يسوّر من الأراضي ما يشاء، وإذا استدعى الأمر يحوّل الملاك الأصليين إلى حراس مزارع، وجميع أبناء النخبة الحاكمة بصنعاء يملكون مزارع في الحديدة.
وفي الحديدة حراك يُقضى عليه خلال أيام لأنه "مسيّس" رغم أنه لا يخلو من مطالب صادقة.
في الحديدة رياضة متنوعة لم يبق منها غير التسميات، وفلكلور يشد الذهن إلى سحر روعته، لكنه دون توثيق حتى الآن.
في الحديدة تتعدّد مطالب المتسولين، وتختلف أعذارهم، لكن صدق النوايا واضحة في وجوههم، فهؤلاء البسطاء هم من أدخلونا التاريخ من أشرف أبوابه: "أهل اليمن أرق قلوباً وألين أفئدة" وفي الحديدة مقامات المحبة الصوفية لا نهاية لروحانيتها.
في الحديدة انفتاح للمرأة الساحلية، لكنها ممنوعة من ركوب "التاكسي" وعلى الجميع استخدام "المايكروباص" بديلاً.
في الحديدة سور الجامعة هو من يفصل بين منزلي الجنرالين علي عبدالله صالح وعلي محسن؛ سور منزل صالح يكفي لبناء مدينة رياضية متكاملة، أما سور منزل محسن فيكفي لإقامة ملعب كرة قدم.
وفي الحديدة تخرج الجمعة الماضية أول مظاهرة تُرفع فيها "الحفاظات" بدلاً من السلاح، لأن الشارع المؤدّي إلى الجامعة وفلل المعتقين: صالح ومحسن، هو من يحرج المحافظ عطية، بسبب طفح المجاري، وتحوّلها إلى مستنقعات للبعوض.
في الحديدة فتاة شق كبدها مرأى الطفولة المغدورة، فعملت تحقيقاً عن تسوّل الأطفال، دون أن تعلم أنهم سيورثون أصابعهم المرتعشة لجيل بعدهم.
في الحديدة كنت أدرّب المشاركين على صياغة خبر افتراضي لمستشفى خاص تسبب بحالات وفاة وإعاقات للمرضى، وفي اليوم التالي يحدثونني عن إغلاق فعلي لمستشفى تسبّب بوفاة شاب يعاني كسراً في يده!.
في الحديدة "مدينة السوق القديم" الأثرية تعاني إهمالاً وتدهوراً وبناء حديثاً وعشوائياً، ومن أموال الحديدة تنهب الحكومة ما خصّصته "اليونسكو" للحفاظ على مدينة زبيد التاريخية.
في الحديدة مطار لم يتغير منذ رأيته قبل 24 عاماً حين غادرته برفقة أبي إلى السعودية، والمطار نفسه لايزال يلغي رحلاته مع كل موجة غبار، في الحديدة فقط ضباط الدولة ينهبون أراضي المطار!.
في الحديدة عقد "فُل" يرمم عبق ما أفسدته السلطة المحلية، لكنه "فُل" أحزنني لأن قيمته ليست أكثر من 200 ريال، لا تساوي لحظة تعبٍ عند تطريزه.
في هولندا توجد أكبر بورصة في العالم لبيع الورود، وتوجد صالات ومدرجات خاصة بها في المطارات، لأنها تمثل جزءاً كبيراً من دخل الدولة؛ فمن سيشجّع مزارع الفل لدينا؟!.
قبل التوجُّه إلى الحديدة بيومين استخدمت قطر عيون "أوبتيديكس" لإزالة احمرار عيني اليمنى حتى لا يظن الحديديون أني "أحمر عين" وناوي أبسط على أرضية عندهم!!.
في الحديدة واحد من أفضل خمسة مساجد في اليمن، غير أن "جامع العيسي" يشرخ القلب بكمية المتسوّلين عند بوابته، وفي ذلك المكان المهيب أدركت سر حكمة الرئيس المصري السابق حسني مبارك بإبقاء المعسكرات خارج المدن، وتغليظ العقوبة ضد من يتجوّل بالسلاح داخل الحضر؛ حيث لم يشوّه المكان ويخدش وجه السكينة سوى منظر عبثي لمسلّح دخل المسجد بكميات قات مقرفة، وتساقط جزء من قاته على السجاد الأحمر الأنيق، طلبنا - أكثر من شخص - أن ينظف فعلته، ورفض.
في هذه المدينة الساحرة تمنيت لو توضع على مداخل المدن محاجر صحية للقبائل المسلّحة، على الأقل يتعلّمون فيها كيف يلبسون ويحلقون رؤوسهم الشعثاء، ويأخذون إرشادات أولية في كيفية التعامل داخل المدن، هل تذكرون الكتيبات البرتقالية التي توزّع على الحجاج عن مناسك الحج والعمرة، نحن بحاجة لفكرة مماثلة تعلّم القبائل المسلّحة مناسك دخول المدن، وما أكثرهم
في الحديدة، ومعظمهم من جيش النهابة الذين بسطوا على ممتلكات وأرواح الناس هنا.
في الحديدة وجوه تسكن روحي من قبل أن أراها، وستظل معنا وفينا إلى الأبد، ومنهم 30 مشاركاً درّبتهم، وأصدقائي الأعزاء: بسيم الجناني والمحامي صغير العمار، والبرلماني مفضل اسماعيل الأبارة ومحمد خمصان، وصديقي الكبير ثابت الأحمدي، وجوه تستحق الاحترام والبقاء معها.